أهمية أصول الفقه للمقلد وكيفية تعامله مع قواعده في يومنا الراهن
(المحاضر: د. عبد الله عبد القادر العيدروس)

✔ هل علم أصول الفقه خاص للمجتهد فقط وليس المقلد بحاجة إلى تعلمه؟
يقولون إن علم أصول الفقه في يومنا الحاضر صار من العلوم التي نضحت واحترقت، فلا يستدل به في وقتنا الحالي. وهذه -بوجهة نظري- مصيبة عظيمة فيه. لأن علم أصول الفقه هو الأس الذي ينبني عليه اجتهادات الفقهاء الأربعة. كما عرفنا أن علم أصول الفقه هو دلائل الفقه الإجمالية وطرق استفادتها ومستفيدها. والمقلد هو الشخص الذي يأخذ كلام غيره من غير دليل.
وبهذا التعريف الشائع يظهر تفريق بين المجتهد والأصولي والمقلد. وكأن المقلد لا ينبغي أن ينظر على علم أصول الفقه لأنه في النهاية أصول الفقه دلائل والتقليد أخذ لقول آخرين من غير دليل. فكيف للمقلد أن يهتم بالدليل وهو لا يحتاج إلى النظر بالدليل؟
من أين جاءت هذه الفكرة؟ لما كثرت الكتب الفقهية المؤلفة من الشروح والاختصارات والحواشي صار العلماء يكتفي بنقل الأقوال والأحكام من كتاب إلى كتاب آخر. ويقولون بأن باب الاجتهاد قد أغلق ومفاتحه قد رمي في البحر. حتى يصير في ذهن الطالب أنه لا يستطيع أن يفكر في استنباط حكم جديد في الزمان الذي يعيشه فضلا عن أن يهتم بأن يصل إلى مرتبة الفقيه.
✔ المقلد أقسام ، فليس كلهم على مرتبة واحدة
بادئ ذي بدء لا بد أن نحقق أولا أن المقلد أقسام، ليس كلهم على مرتبة واحدة. وإلا فسنحكم بأن الصحابة في زمان النبي أيضا من المقلدين كنحن. لأنهم أخذوا الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم بدون الدليل. فالمقلد أقسام وهناك ما يسمى بمجتهد المذهب وهو من المقلد، أيضا مجتهد الفتوى وهو من المقلد. لو لم نقسم كما هذا صار طالب العلم المقلد خائفا من الاجتهاد. فصار متعلم علم الفقه وعلم أصول الفقه كنسخة الكتاب فقط، بمعنى أنهم تعلموا العلوم فقط لحفظ الكتب ولحفظ التراث. مع أن علم أصول الفقه هو للعمل وللتطبيق له في الواقع العملي.
لو رأينا ما حدث بعد القرن العاشر: هناك ما يسمى بالتنقيح الثاني للشيخين الرملي وابن حجر، حيث رجح الأقوال ويقيس بالمصلحة، لكن ذلك لا يخرجهم عن المذهب، وهما من المقلد للمذهب الشافعي. وأحيانا يثبت الحكم لمسألة جديدة بدليل المصحلة ودليل القياس ودليل شد الذرائع. وكذلك نجد في فتاوى العلماء في عصرنا من يجتهد مثل ذلك. مع أنهم في النهاية ما زالوا مقلدا. لكنهم قدروا على حل المسائل التي تتداول في عصرهم بالقياس والنظير وأخذ المقابل.
فلذلك لو اجتمع في شخص علم أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة انتهى المعنى لتحقيق أي نهضة من نهضات الإسلام. وإن وقع هناك أخطاء في تأليف أصول الفقه لكن يتحسن بمرور الزمان. وسيتضح ذلك بالنظر إلى تطور علم أصول الفقه. سنجد أين المراحل التي تسبب التأخر والضعف في علم أصول الفقه.
✔ فائدة علم أصول الفقه وعلم القواعد الفقهية وعلم مقاصد الشريعة
إن علم أصول الفقه يوجه التفكير الإسلامي، والتعامل مع الناس، ويرتب الأفكار في حل القضايا الشرعية. وهو أيضا سبب في توحيد منهجية التفكير للمذاهب الأربعة، حيث يترتب أن هناك أدلة متفق عليها وأدلة مختلف فيها. وهو أيضا أداة أولى للاجتهاد الفقهي.
أما علم القواعد الفقهية قال السبكي: من أراد أن يملك الفقه يضبطه بالقواعد. لأنك إذا ربطت القاعدة ربطت الفروع الفقهية. ولا بد أن نتعلم كيف ندرس أصول الفقه كما من أجلها أنشئ ، مثل في مسألة كيف نعرف علة تحريم الخمر فنحكم ونقيس على المشروبات الأخرى التي خفيت فيها علة الخمر.
فمثل هذه القضايا المعاصرة والمتجددة نستطيع أن نعرفها من خلال علم أصول الفقه. وأيضا عندما تعارضت المصلحة في الأحكام ، نستطيع أن نعرف من خلال فن مقاصد الشريعة. من خلال هذا الدليل الإجمالي ، نستطيع كفقيه وعالم أن ننظر وترجح المصالح والمفاسد. فهذه العلوم الثلاثة لا يفصل بعضها من بعض. قبل عرض الدليل أمام المستفتي يمكنك أن تقنعهم بسبب أصول الفقه ثم بعد ذلك ترجع إلى الكتب الفقهية لدعم ذلك الرأي.
قال الإمام الشوكاني بإن الاجتهاد في العصر الحاضر أحوج بالنسبة إلى الزمان السابقة، لأن الآن العلوم والكتب والتراث منتشرة في العالم وسهل الوصول والحصول عليها. لكن سبب تأخرنا من الزمان السابق هو الضعف والكسل ، فلذلك اعتبر الباب كأنه قد أغلق.
في السنن النبوية ،ستجد هناك كان الصحابة إذا أراد أن يحكم في مسألة فقهية معينة جمعوا الناس من الفقهاء للاجتهاد الجماعي حتى يصلوا إلى الحكم الشرعي، وهذا مثل المجمع الفقهي في يومنا الحاضر.
✔ أسباب تدوين علوم أصول الفقه
كان في فترة التاريخ الأولي العلماء يستنبطون مسألة فقهية دون منهجية واضحة للاستنباط ، فتجد للمجتهد عدة أقوال في مسألة واحدة. فجاء الشافعي لترتيب ذلك في قواعد تربط الاستنباط في تعامل الناس بالنصوص. فألف كتاب الرسالة.
ارتكز في كتابه "الرسالة" على أمرين : مبحث المعاني ومبحث دلالة الألفاظ. يتطرق إلى مبحث الحروف ولا اللغة من حيث هي اصطلاحية أم توقيفية ، بل تكلم عن مبحث المعاني ودلالة الألفاظ كالأمر والنهي والمجمل والمبين . لا يتكلم عن أصول الدين، لأن الغرض حينئذ مجرد وضع المنهج الفكري الفقهي للاستنباط. أما غير ما لم يكتبه الشافعي هو لا يحتاج إلى كتابته لأنه من الأمور التي قد علمت بالضرورة.
نمط المتقدمين مركز في هذه المباحث. فمتى امتزج علم أصول الفقه مع علم الكلام؟ جاء في القرن الثالث الامتزاج في فن أصول الفقه بأصول الدين أو علم الكلام. وهذا بسبب نشاط المعتزلة الذين ينشرون الشبهة فردهم أهل السنة بتأليف الردود في مبحث علم الكلام. ولقوة المعتزلة في علم الكلام حيث سلط الدولة بذلك ، فاضطر علماء أهل السنة بالكلام على علم الكلام وعلم اللغة وعلم الحديث، وصار أصول الفقه كعلم الخلاف ، في كل مسألة من مسائلها خلاف بين الأشعري والمعتزلي. أين علاقته بالاستنباط؟
بسبب هذا صار علم أصول الفقه الذي هو منهج عملي ينتقل إلى منهج فلسفي. دخله علم الكلام فتكلم فيه عن علم المنطق. وكذلك دخل عليه العلوم الغيبية التي تكلمت عن أمور الآخرة التي لا دخل لها في الاستنباط. فصار في ذهن طلاب العلم أن تعلم علم أصول الفقه هو تعلم الأشياء غير واقعية وليس فيها فائدة مهمة.
✔ مرحلة التجديد في أصول الفقه:
وقع التجديد في علم أصول الفقه لا في أصول الفقه ، فألف العز بن عبد السلام القواعد الفقهية ، يتكلم عن أمور منها المصالح والمفاسد وبين منهجية الترجيح وكيفية الاستنباط من دون الكلام على علم الكلام. ثم جاء بعد ه الإمام الشاطبي فألف كتابه المسمى بـ"الموافقات" فأبعدت كل شيء لا يتعلق بوظيفة أصول الفقه في الاستنباط وجرده ذلك كله. وميز بين المسائل الأصولية واللغوية. نعم إن الأصولي يحتاج إلى علم اللغة ، لكن الأحسن لا يجمع هذين الفنين في علم واحد. فمن أراد أن يتعلم علم اللغة فليرجع إلى كتب اللغة.
ثم جاء بعد ذلك الإمام الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ، يرى أن الاجتهاد في الراهن أيسر من الزمان القديم ، لأن السنة والتفاسير كلها مدونة ، فيرى أن كلام بعضهم بأن باب الاجتهاد مغلق كلام لا ينبغي أن يثار.
✔ وظائف علم أصول الفقه

علم أصول الفقه لها وظيفة. أولا: تفسيرية ، من خلالها يعطي لنا منهج متكامل لفهم نصوص الشرع كالقرآن والسنة. وذلك من خلال الكلام على دلالة الألفاظ، والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمنطوق والمفهوم.
ثانبا: ضبط قواعد الاستنباط ، عن طريق تبيين عن أبحاث مبحث الأدلة كيف نرجحها وكيف نجمعها.
ثالثا: وضع طرق الاستنباط ، مجردة عن علوم أخرى لا علاقة لها بعلم أصول الفقه.
رابعا: ترشيدية ، لأن النصوص قليلة والوقائع كثيرة ، فنحتاج إلى القواعد المنهجية العقلية المستندة إلى نصوص ، فيمكن أن نستنبط بها الأحكام الشرعية في كل المسائل الحديثة التي توجه إلينا اليوم.
فجاء القياس ، ومسالك العلة ، والترجيح بين العلل.
كثير من العلماء الذين أبعدوا مسألة الجدل من علم أصول الفقه. كالإمام الشعراني مثلا ، كان اختصر جمع الجوامع فحذف كل المسائل المتعلقة بالجدل ، أثبت كيفية مسالك العلة ثم قوادح العلة التي تؤثر في صحة العلة. لا يتكلم عن مسألة الجدل.
فصار بذلك كله في ذهن الطالب أن هذا العلم كأنه علم جامد. واعتبره علما غير واقعي. لأنه كأنه مجرد الكلام عن علم الخلاف بين المجتهد. والمقلد لا دخل له بذلك كله. فركز في التفريق بين علم أصول الفقه من حيث هي علم عملي لا فلسفي ولا جدلي. وأيضا لا بد علينا أن نتعلم علم أصول الفقه مع علم القواعد الفقهية وعلم مقاصد الشريعة حيث بذلك كله نستطيع أن نحل مسائل جديدة توجه إلينا في يومنا الحاضر.
* والله أعلم *


فرصة السؤال والجواب:

✔ محي الدين: كيف نفتي اليوم مع تطبيق علم أصول الفقه؟
ج: لا بد بالآلة ، بنقل الكلام للمتقدمين ، أما بالمسألة التي لم يتكلم بها السابقون ..فالمفتي اليوم لا يمكن أن يدرك بجميع المسائل كلها ، فالأحسن أن نستفيد كثيرا بما يسمى بالمجامع الفقهية ، حيث اجتمع فيه كثير من أصحاب المهنة المختلفة. وأيضا بفقه النفس التي تحصل بالممارسة ، -راجع ما قد كتبه الشيخ بافضل- حيث يبين ويدرك كيف يستنبط الأحكام الفقهية ،

✔ الجفري: هل باب الاجتهاد مغلق في جميع المسألة الأصولية ، والفروعية ؟ أو فقط في الأصولية؟

ج: الجزئية لا يغلق الباب للاجتهاد فيها ، وذلك بالقياس ،

✔ القدري: كيف طريقة العلاج للتعصب في تطبيق أصول الفقه ؟ لأنهم اختلفوا ولم يرد أن يجتمع بعضهم بعضا في رأي واحد مع أنهم فهموا علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة؟ لماذا لم يجتمع في المجمع الفقهي؟
ج: ظهر من الجدل والخلاف التعصب ، فالإخلاص في الاجتهاد هو العلاج. كما قاله الشافعي بأنه يحب أن يظهر الحق على المعترض لا منه ، فالعصبية تحصل من النفس، ومن الهوى ، فيحكم بما أراده، لا ما أراده الله ، لأن أصول الفقه هي منهج فكري شرعي ، كل الأدلة ستصل إلى الحكم ، إلا أن يعكره النفس ، وكثير ذلك بسبب السياسة ، لأمر سياسي ، وذلك أمر خطير لأنه من معاني حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. ولا سيما لو كان ذلك بإلغاء النص الواضح فأخذ الحكم الذي يوافق هواه.